Print

!مبارك هو العطاء أكثر من الأخذ

 

كانت كلوديا (اسم مستعار للحفاظ على الخصوصية) مضطربة، فقد أوشك الإحتفال الأكبر للسنة أن يأتي، وليس لديها من هدية لتقدمها للعائلة التي استضافتها. كانت أوروبا في ذلك الحين قد نفضت عنها للتو غبار الحرب العالمية الثانية، وكانت تكافح لبناء وتعمير ما قد تهدم. وكان هناك تبادل للتلاميذ من أوروبا للذهاب إلى الولايات المتحدة للدراسة. وكان من نصيب كلوديا أن تذهب إلى الولايات المتحدة وتسكن مع عائلة امريكية واسعة الثراء لتواصل دراستها هناك. وكان يبدو لكلوديا أن العائلة الثرية التي استضافتها، لم تكن بحاجة لشيء، إذ كان يتوفر لها كل ما يمكن أن يجود به العالم.

 

فماذا عساك أن تقدم لأُناس يمتلكون كل شيء ولا ينقصهم شيء على الإطلاق؟ أظهرت العائلة المُضيفة عطفاً كبيراً على كلوديا، وأجذلوا لها العطاء. وأدركت كلوديا أن هذه العائلة ستغدق عليها الكثير من الهدايا في الإحتفال السنوي الكبير الذي أوشك أن يأتي. فقد كانت تلك عادة العائلة أن يقدموا لها من الهدايا قدر ما يقدمونه لأولادهم. فماذا عساها هي أن تقدم لأُناس ليس لهم احتياج لشيء، ويمكنهم شراء كل ما تشتهي أنفسهم؟

 

أقترب يوم الإحتفال أكثر فأكثر. وأخيراً، وقبل يومين فقط من تاريخ ذلك الإحتفال، خطرت لكلوديا فكرة، شرعت على الفور في تنفيذها من أجل تلك العائلة، لتعبّر لهم عن شكرها بطريقتها الخاصة. وإذ استقلت الحافلة إلى السوق، توجهت إلى متجر كبير واشترت منه أفضل فستان أطفالي استطاعت أن تجده بكل ما كان معها من نقود. وطلبت من البائع أن يلفّه في ورق الهدايا. وفي طريقها للخروج من المتجر توقفت أمام البواب الذي يستقبل الزبائن. وسألته: "عفواً، سيدي، هل يمكنك أن تدلني على المنطقة التي يسكن فيها الفقراء؟".

 

فساتين طفلتطلع البواب فيها ببعض الريبة، ثم أدار لها ظهره ليواصل عمله. فتوجهت كلوديا إلى شرطي أمام المتجر وطرحت عليه السؤال ذاته كي يوجهها إلى المنطقة التي يسكن فيها الفقراء. فرد عليها الشرطي متسائلاً: "الفقراء؟" لا أظنك تحبين الذهاب إلى هناك يا آنسة. فهذه المنطقة من المدينة ليست آمنة. اذهبي إلى بيتك الآن وتمتعي بعطلة سعيدة، ولا تعرضي نفسك للخطر".

 

المعروف عن نيويورك، أنها مدينة مزدحمة بالأعمال والزبائن، ولا سيما قبل حلول وقت الإحتفال الكبير الذي لم يبق سوى يومين فقط عليه. شعرت كلوديا بالوحدة والعزلة وسط زحام الناس وتدافعهم. ولم تعلم أين تذهب بعد كل ذلك لإتمام خطتها، فكانت تسير على غير هدى وهي تشعر بالقلق لئلا تفشل الخطة التي عزمت على تنفيذها.

 

وبعد برهة وصلت إلى شوارع يبدو عليها الفقر وتختلف كثيراً عن المنطقة الراقية التي سكنت فيها وتعودت عليها عند العائلة التي استضافتها منذ وصولها إلى أمريكا. فالمباني هنا كانت قديمة ومتهالكة، والناس يرتدون ملابس رثة. وفجأة سمعت صوت رنين جرس. فتنفست الصُعداء إذ أدركت أنها وجدت ضالتها المنشودة. وإذ رأت أمامها شرطي في زيّه الأحمر وكان يرن الجرس الذي في يده وهو يقف أمام مكتب منظمة جيش الخلاص، ويقدم للناس إعلانات عن نشاطات جيش الخلاص الخيرية، ارتاحت كلوديا لرؤيته لأنها كانت تعرف عن منظمة جيش الخلاص، إذ أنهم مارسوا نشاطاتهم في أوروبا أيضا من حيث جاءت هي.

 

وإذ كانت مترددة وتخاف من أن يصدها هذا الشرطي أيضاً، تقدمت منه ببطء، وسألته قائلة: "عفواً سيدي، هل لك أن تدلني على عائلة فقيرة هنا؟" كان الشرطي أشبه بجدٍ كريم عطوف. وشعر في نفسه أن هناك أمر ما خلف هذا السؤال. وإذ شجع كلوديا وحثها على أن تخبره بالأمر، حدثته بتلعثم وبالإنجليزية الركيكة. فوقع كلامها على آذان متعاطفة.

 

تفَهَم شرطي جيش الخلاص الأمر. فقال لها، "نعم، أنا أعرف عائلة فقيرة، بل أعرف عائلات كثيرة. ووردية عملي أوشكت أن تنتهي الآن. ولو انتظرتي بضع دقائق حتى يأتي بديلي، فيمكنني أن آخذك إلى إحدى تلك العائلات الفقيرة".

 

وبعد عدة دقائق أوقف الشرطي سيارة أجرة ليركب فيها مع كلوديا، ووصف للسائق أين يجد مبنى مرتفع به العديد من الشقق التي تسكنها عائلات فقيرة. ولدى وصولهم للمبنى، نزل الشرطي وفتح الباب لتنزل كلوديا من سيارة الأجرة. ولكن كلوديا هزت رأسها بالنفي، قائلة للشرطي، "كلا، أنا لن أذهب، بل خذ أنت هذه الهدية للعائلة الفقيرة. هذه الهدية ليست مني بل هي من غيري". وإذ كانت كلوديا تتأمل في المبنى القديم المتهالك، الذي لم ترى أفقر منه في حياتها، استطردت تقول للشرطي، "أرجوك أن توضح للعائلة أن هذه الهدية هي من عائلة تمتلك كل شيء وليست في حاجة لشيء".

 

الذهب الحاضروبالفعل، أخذ الشرطي الهدية لإحدى العائلات الفقيرة. وعاد سائق التاكسي بكلوديا إلى البيت، ولم  يقبل أن يأخذ منها الأجرة. فهو إذ استمع إلى حديثها مع الشرطي، تأثر كثيراً بمحبتها وعطفها.

 

وأخيراً جاء يوم الإحتفال السنوي الكبير. ونالت كلوديا العديد من الهدايا التي قدمتها لها العائلة المُضيفة. وبعد أن فتحت كلوديا كافة الهدايا وهي تشعر بالشكر، حاولت بخجل وتردد وتلعثم، أن تشرح للعائلة لماذا لم يتسلموا هم منها أية هدية. فقالت بالانجليزية الركيكة: "أرجو أن تفهموا أنني أردت هذه المرة أن أقدم لكم هدية متميزة وخاصة. ولكن أنتم لا تحتاجون لشيء، وكل ما تريدونه متوفر لكم بكثرة. وليس ما أستطيع أن أقدمه لكم أكثر مما عندكم. ومهما قدمت فلا يمكنني أن أعبّر كما ينبغي عن شكري لكم لما تقدمونه وتفعلونه معي. ولهذا فقد اشتريت أجمل فستان أطفال وجدته في السوق، وقدمته لعائلة فقيرة جداً، في مسيس الحاجة للمساعدة. وقدمت الهدية باسمكم باعتبار أنكم أنتم الذين قدمتموها لهذه العائلة الفقيرة". ثم أوضحت لهم أن الشكر والامتنان والدعاء الذي تقدمه تلك العائلة الفقيرة سيكون موجهاً لهم وليس لها هي. وتلك كانت هدية كلوديا للعائلة الثرية التي استضافتها في منزلها لتستكمل دراستها في أمريكا.

 

وما أن انتهت كلوديا من حديثها هذا مع أفراد الأسرة الثرية، حتى ساد الصمت الغرفة وترقرقت الدموع في أعين الجميع. وظل أفراد هذه العائلة يتذكرون جمال محبتها التي عبّرت عنها في هكذا عطية، وظلت معهم هذه الذكرى حتى بعد وقت طويل من مغادرة كلوديا لمنزلهم عائدة لوطنها في أوروبا. وما عملته كلوديا حفّزهذه العائلة أن تحذو حذوه في السنوات اللاحقة بتقديم الهدايا للفقراء.

 

القلب الذي تغمره المحبة يرغب في العطاء. والشعور بالشكر والإمتنان في قلوب الذين نالوا عطية المحبة تلك، يجد تعبيره في تقديم هدايا ومساعدات مماثلة كرد فعل لما نالوه. ولكن ماذا عساك تقدم لمن عنده كل شيء؟ يمتلك يهوه كل شيء، بل هو مصدر كل شيء في الوجود. فماذا يمكن لبشر أن يعطي خالقه الذي لا يعوزه شيء على الإطلاق؟ ولكن يهوه، أخبرنا بنفسه عن نوع الهدية أو العطية التي يقدرها بالأكثر: "الديانة الطاهرة النقية عند يهوه هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يعقوب 1: 27).

 

لا يحتاج يهوشوه إلى قميص جديد، ولا حاجة له لكتاب جديد أو ساعة أو حاسوب  آخر طراز. العطايا التي تحظى بأكثر تقدير منه، هي تلك التي كان ليقدمها لو كان هو نفسه لو كان مازال معنا هنا على الأرض، وهي تشمل أعمال الشفقة والمحبة وكلمات التشجيع والإبتهاج، وتقديم الطعام واللباس للذين يحتاجونها، ومشاركة حق السماء مع الجائعين روحياً: "الحق أقول لكم، بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم" (متى 25: 40).

 

كل ما يُعمل للتخفيف من الآم الآخرين، وتلبية احتياجات المعوزين والجهلاء أو غير المتعلمين، يقبله يهوه وكأنه هدية خاصة قُدمت له شخصياً. وفي هذا الصدد قال يهوشوه مؤكداً: "لأن من سقاكم كأس ماء باسمي، لأنكم للمسيح، فالحق أقول لكم: إنه لا يضيّع أجره" (لوقا 9: 41). حتى تقديم الماء للعطشان، يعتبر خدمة مقدمة ليهوه نفسه.

 

والسبب في ذلك بسيط، فالآب السماوي يهوه وابنه يهوشوه يشعران بكل ما يشعر به أولادهما الأرضيين: "لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرب في كل شيء مثلنا..." (عبرانيين 4: 15). وبالتالي إذا شعر أحد بالجوع، فيهوه يتألم مع ذلك الجائع ويشعر بجوعه. وتقديم الطعام للجائع، يريحه من ألم الجوع، وبالتالي يريح يهوه الذي يشعر بآلام أولاده.

 

وكلمات الرجاء والتشجيع التي تقدم لإنسان مضطرب متألم، تريح يهوه أيضاً من الألم العاطفي الذي يشعر به عندما يحزن أحد أبنائه أو يشعر بالإحباط. وربما كانت أعظم عطية يمكن تقديمها هي عطية معرفة الحق. جموع غفيرة من الناس يعيشون في ظلمات الضلال والخرافات التي تطمس عيونهم وتصيبهم بالأسى. وتقديم عطية الحق لهم، والتي تجعلهم يبتهجون في خلاص يهوه وينالوا الفداء والخلاص في ملكوته الأبدي، تعتبر عطية ذات قيمة خاصة في نظر أبونا السماوي.

 

وضع الشخص في مظروف البريدإنه لأمر مهم بالنسبة للذين يتعبدون في بيوتهم، وليس لهم كنيسة يذهبون إليها ويقدمون عطاياهم، أن يفهموا مبدأ إرجاع العشور وتقديم العطاء. وموقع "إنذار" لا يقبل العشور أو العطاء. وإذا لم يكن للشخص أي انتماء كنسي، يكون من الصعب عليه أن يعرف كيف يتصرف في هذه المبالغ. وتوجد عدة طرق يمكن للشخص من خلالها أن ُيرجع ليهوه ما يخصه، حتى وإن كان ذلك الشخص يتعبد في بيته بوصفه كنيسة.

 

يوجد فرق بين العشور وبين العطاء. يُقدَم العشور ليهوه بهدف دعم وتقدم عمله على الأرض، إما بتعضيد خدامه، أو بنشر بشارة الإنجيل. بينما العطاء الذي يُقدم ليهوه هو تعبير عن الإمتنان والمحبة. وعطاء المحبة هذا يمكن أن يتخذ العديد من الأشكال التي تتضمن ما هو أكثر بكثير من الأموال.

 

العطاء: لم يكن يهوشوه هو فادينا وحسب، بل وكان أيضاً مثالنا في الحياة. كان أعظم معلم عرفه العالم. ولكنه قبل أن يُعلّم الناس حقائق الخلاص، كان يلبي أولاً احتياجاتهم الجسدية. فكان يشفي أمراضهم ويهب البصر للعميان والسمع للصُم والراحة والعتق لمن كان بهم أرواح شريرة، والتشجيع لخائري العزيمة. بل وعندما دعت الضرورة، وفّر الطعام للجموع التي ظلت تستمع إليه. هذا جعل الناس يشعرون بالإمتنان والشكر، مما جعلهم أكثر انفتاحاً ورغبة لسماع كلمات الحق التي أراد هو أن يشاركها معهم.

 

وإذ يتبع المؤمنون مثاله، يكون من المقبول تماماً بالنسبة لهم أن يستخدموا عطاياهم للتخفيف من آلام الناس من حولهم. والكتاب المقدس مليء بالنصائح التي تدعونا إلى إظهار الرحمة والعطف للمحتاجين.

 

"هكذا قال يهوه: اقضوا قضاء الحق واعملوا إحسانا ورحمة كل إنسان مع أخيه، ولاتظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير" (زكريا 7: 9-10).

 

إن كنت تعرف رجلاً مُسِنّاً، ليس له ما يكفي من طعام، فإن هبة الطعام التي تقدمها له، لتساعده في ضائقته، هي هبة محبة يبتهج يهوه بتسلمها. كانت العادة المألوفة بين الإسرائيليين الأتقياء أن يأخذوا الطعام إلى المتسولين، في اليوم السادس من الإسبوع تلبية لإحتياجاتهم، بحيث لا يضطرون للتسول في ساعات السبت المقدسة.

 

وإن ُوجدت أم وحيدة تكافح لإعالة أطفالها، فإن إعطائها هدية مكونة من ملابس شتوية وأحذية دافئة لتلبية حاجتها المحددة، هي قرباناً مقبولاً لدى يهوه، لأنه عندما تريح محنة أبنائه الأرضيين وتعزيهم، فهو يشعر أيضاً بالإرتياح لراحتهم.

 

الأم وابنتها احتضان في الثلجيتأثر قلب يهوه المُحب دائماً بآلام الناس. وهو يركز انتباهه على المحتاجين، وكل من يعمل على التخفيف من أعبائهم وتلبية احتياجاتهم، إنما يعمل بذلك مع يهوه. والهدايا والأعطية التي يقدمها هكذا، تعتبر بالحقيقة عطية مقدمة ليهوه شخصياً

 

"من يرحم الفقير يُقرض يهوه، وعن معروفه يجازيه" (أمثال 19: 17).

 

تختلف العطية عن القرض. فالذي يقدم العطية يفعل ذلك دون توقع أي مردود. أما القرض، فهو يُقدَم كسلفة لفترة محدودة، مع توقع إرجاعها في وقت لاحق للمالك الأصلي. من المستحيل أن تعطي يهوه أكثر مما يعطيك. فهو مصدر كل عطاء سخي. والعطايا التي تُقدم للفقراء والمحتاجين، يعتبرها يهوه أنها قرض له، وبالتالي سيتأكد من أن المعطي لن يفتقر، لأنه سيُعوّض المعطي بأكثر مما قدم ليساعد به غيره. بل إن يهوه يحتفظ بسجل الطعام والضيافة التي مورست لبركة قديسيه وتلبية احتياجاتهم. وهو يضمن للمعطي جزاءً تاماً. "الصالح العين هو يُبارَك، لأنه يعطي من خبزه للفقير" (أمثال 22: 9).

 

"لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون" (عبرانيين 13: 2). هذه الكلمات لم تفقد قوتها عبر الزمن. وما زال أبونا السماوي يضع في طريق أبنائه، فرصاً هي عبارة عن بركات مُمَوَهة، والذين يحسنون استغلال هذه الفرص، سيجدون سعادة كبيرة: إن "أنفقت نفسك للجائع، وأشبعت النفس الذليلة، يُشرق في الظلمة نورك، ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر. ويقودك يهوه على الدوام ويشبع في الجدوب نفسك، وينشط عظامك، فتصير كجنة ريّاً وكنبع مياه لا تنقطع مياهه" (إشعياء 58: 10-11).

من السهل في عالمنا الحديث هذا، أن تكون نظرتنا ضيقة جداً حول ما الذي يشتمل عليه "العشور والتقدمة". ومن السهل أن نتصورأننا ما لم نقدم الأموال لتعضيد منظمة ما، فلا يمكن أن يًحتسب على أنه عشور أو تقدمة. ولكن الحقيقة هي أن هذا التصور لا يتفق مع الكتاب المقدس. كان المجتمع الإسرائيلي قديماً مجتمعاً زراعياً. وكان الناس يعملون في الزراعة في معظم الأحيان، كما في تربية المواشي والأغنام. وكان يمكن إرجاع العشر بتقديم الحيوانات أو أباريق الزيت أو سِلال الفواكه أو أكياس الحبوب أو براميل الدقيق (الطحين). والتقدمة يمكن أن تكون أي شيء يرغب الشخص في تقديمه ليهوه.

 

حبوبفالسيدة الماهرة في التطريز التي يمكنها تطريز قطعة قماش جميلة، أو تغزل بيدها شيئاً ما على النول، فعندما كانت عائلتها تسافر إلى المقدس لحضور عيد المظال، كان زوجها يأخذ معه أكياس الحبوب كعشور عن الزيادة التي بارك بها يهوه محصول حقله. ولكن كان بإمكانها هي أيضا أن تُحضر معها تقدمة شخصية مما صنعته بيدها، تعبيراً عن محبتها وامتنانها ليهوه من أجل بركاته عليها خلال السنة.

 

ونظراً لأن بعض الأشخاص لم يمكنهم السفر كل سنة إلى أورشليم لحضور الأعياد، كانت تُجرى بعض الترتيبات الخاصة لهؤلاء أيضاً. فكان يُحفظ عشر ثانٍ جانباً لهدف واضح ومحدد وهو استضافة الفقراء في منزل الشخص ذاته للعيد السنوي. فيهوه يهتم بالفقراء والمرضى وكبار السن. وقد جعل في مقدور الجميع أن يشاركوا في بركات الأعياد.

 

أما الفقراء جداً الذين لم يستطيعوا تحمل نفقات السفر إلى أورشليم، فكان في استطاعتهم أيضاً أن يتمتعوا ببركات الحصاد الوفير والعيد الروحي، وذلك بقبول ضيافة من كانوا أكثر وفرة منهم. وهكذا نجد أن الإقتصاد العبري بأكمله استند على السخاء والكرم ومساعدة الفقراء والمحتاجين. واعتُبِرت هذه الهبات والهدايا، وإن لم تكن نقدية، على أنها تقدمات يقبلها يهوه وكأنها عطية مقدمة له هو شخصياً.

 

"من يعطي الفقير لا يحتاج، ولمن يحجب عنه عينيه لعنات كثيرة" (أمثال 28: 27).

 

العشور: العشور، على عكس التقدمات، ليس عطية يقدمها الشخص ليهوه. فالعشور هي ملك له في الأساس، بل الحقيقة هي أن كل شيء ملك للخالق. هو المالك لكل شيء لأنه هو الذي خلق الكل.

 

"ارجعوا إلي أرجع إليكم قال يهوه. فقلتم بماذا نرجع؟ أيسلب الإنسان يهوه؟... فقلتم بما سلبناك؟ في العشور والتقدمة" (ملاخي 3: 7، 8).

 

يسمح لنا يهوه في سخائه وكرمه، بأن نستخدم تسعة أعشار كل ما يعطينا إياه. وهو لا يطلب منا إلا أن نرجع له العشر. وبينما التقدمات يمكن أن تكون أية عطية نقدمها ليهوه بالمحبة، في شخص قديسيه، فإن العشور هو لهدف واضح ومحدد، ألا وهو نشر حقه في الأرض.

 

وهذا يمكن إنجازه من خلال تعضيد خدامه بشكل مباشر، إما بالنقود أو بالطعام، أو أي شيء آخر يمكن أن يساعد في دعمهم في عمل نشر بشارة الإنجيل. يمكن أيضاً إرجاع العشور بعدة طرق أخرى. فأية نفقات تدعم نشر الحق يمكن اعتبارها عشور، وهذا يشمل شراء الكتب المقدسة وغيرها من المواد الروحية الأخرى لمشاركتها مع الآخرين.

 

فتاة تعمل على الكمبيوتروأولئك الذين ليس لديهم ماكينة طباعة خاصة بهم، يمكنهم إرجاع عشورهم عن طريق طباعة المقالات المليئة بالحق الروحي، في محلات الإنترنت، ثم نسخها بأعداد كبيرة في محلات النسخ. وبعد ذلك يمكن توزيع هذه المقالات ومشاركتها مع الآخرين. إن موقع "إنذار" له مخزن يحتوي قسم منه على أدوات خاصة بمشاركة الحق، ويمكن أن يكون ذات نفع لك أيضاً في نشر الحق. يمكن لعمل الخلاص أن يتقدم كثيراً فيما إذا استخدم الجميع عشورهم في تعضيد نشر الحق في نطاق دائرة تأثيرهم. لقد وعد يهوه بالبركة الجزيلة على كل من يُرجع له العشور التي تخصه.

 

"هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام، وجربوني بهذا، قال يهوه، أن كنت لا أفتح لكم كوى السماوات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع. وأنتهر من أجلكم الآكل فلا يُفسد لكم ثمر الأرض، ولا يُعقرُ لكم الكرم في الحقل، قال يهوه. ويطوبكم كل الأرض، لأنكم تكونون أرض مسرة قال يهوه" (ملاخي 3: 10-12).

 

وعَد يهوه ببركة تفوق الطبيعة، على كل من يثق به بالقدر الذي يجعلهم يُرجعوا إليه، بروح الإثرة، العشور والتقدمة. إن ياه هو الذي يضاعف الثمر (1 كورنثوس 3: 6، 7). وبغض النظر عن العمل الذي يقوم به الشخص، أو كمية العشور والتقدمات التي يُرجعها، فإن يهوه إنما ينظر إلى القلب، وبنسبة رغبة المعطي وخلوص قصده يزوده يهوه ببركة مضاعفة.

 

فالعطية الصغيرة التي تُقدم من قلب محب طاهر، وبروح الإيمان المتواضع، ستكافأ بجزاء أعظم من آلاف الدولارات التي تقدم بدافع الكبرياء والسعي الذاتي.

 

أراد يهوشوه التأكد من أن الجميع يفهمون هذه النقطة. ففي ذات يوم بينما كان في الهيكل مع تلاميذه: "تطلع فرأى الأغنياء يلقون قرابينهم في الخزانة، ورأى أيضاً أرملة مسكينة ألقت هناك فلسين. فقال، بالحق أقول لكم: إن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع، لأن هؤلاء من فضلتهم ألقوا في قرابين يهوه، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل المعيشة التي لها" (لوقا 21: 1-4).

 

الأغنياء الذين قدموا الكثير، بقيت لهم أموال كثيرة. أما الأرملة الفقيرة، فلم يكن لها سوى فلسين فقط لتقدمهما. ومع ذلك فهي قد أعطت أكثر من مجموع ما قدمه الباقون كلهم، لأنها قدمت كل معيشتها. وبمعنى آخر، فإن المبلغ الصغير من المال الذي كان معها لتعول به نفسها خلال اليوم، وضعته كله، أي أنها أعطت كل شيء.

 

امرأة مسنة يبتسمونتيجة لذلك ستكون مجازاتها أكثر بكثير من الأغنياء الذين وضعوا في الخزنة الكثير من الأموال، ولكن فضل معهم الكثير والكثير. وفي يوم ما في السماء، سيُظهر المُخلّص لهذه الأرملة النتيجة التي ترتبت على عطيتها التي قدمتها في غير أنانية، والمتمثلة في المرسلين والأطباء والكارزين الذين اُرسِلوا إلى كافة أنحاء العالم، والمستشفيات التي شيدت والمدارس ودور الأيتام التي افتُتحت ونالت الدعم. فالعمل الذي ابتُدأ به كنقطة صغيرة، بفضل الفلسين، نما واتسع وامتد حتى أصبح محيطاً شاسعاً في مساحته، من العطاء والسخاء والكرم. وكل هذا كان واعزه وإمكانية تحقيقه راجعاً لمثالها في العطاء المُضحي الذي لا يفكر في الذات. نعم، كم ستكون مكافأتها عظيمة!

 

ماذا تمتلك يدك؟ وما قدر ما تستطيع إرجاعه ليهوه؟ شكل ونوع عطية المحبة لا يهم كثيراً. وكذلك لا يهم المبلغ الذي تقدمه. كل ما يهم هو المحبة التي تحثّك على العطاء، والرغبة في أن تعمل مع يهوه في نشر حقه الخلاصي في الأرض.

فحتى أصغر عطية تقدمها، ستنال عنها مردوداً وفيراً. وعظيم هو أجر كل من يقدم مما له لخالقه وسيده.