إن تاريخ شعب يهوه في
العصور المظلمة التي بدأت منذ صارت السيادة لروما هو سجل حافل بالاحداث ومكتوب في
السماء، وان كان أهل العالم لا يعطونه المكانة اللائقة به. وقليلة هي الآثار
الدالة على وجودهم الا في اتهامات مضطهديهم. فلقد كانت سياسة روما تهدف الى محو كل
آثار الانشقاق والخروج على عقائدها وقوانينها، فكل ما كانت تعتبره هرطقة عمدت الى
ملاشاته سواء أكان مؤلفات أو أناسا. فكلام الشك أو التساؤل في ما يختص بسلطة
تعاليم البابا كان كفيلا بأن يضيِّع حق الانسان في الحياة سواء كان من الأغنياء أو
الفقراء، العظماء أو الأدنياء. وعمدت روما أيضاً إلى إحراق كل الوثائق التي تثبت
قسوتها على المنشقين عليها، فلقد اصدرت المجامع البابوية أوامرها بحرق مثل تلك
السجلات. قبل اختراع المطابع كانت الكتب قليلة العدد ونادرة الوجود، وكانت ذات
احجام كبيرة بحيث لم يسهل حفظها، ولهذا فلم يكن ما يمنع رجال كنيسة روما من تنفيذ
اغراضهم.
لم تُترك كنيسة ضمن حدود سيادة روما تنعم بحرية ضميرها من دون ازعاج. فما ان حصلت البابوية على السلطان حتى مدت يديها لتسحق كل من رفضوا الاعتراف بسيادتها، وهكذا خضعت الكنائس لسلطانها الواحدة في أثر الاخرى.
في بريطانيا العظمى كانت المسيحية البدائية قد جذّرت اصولها. فالانجيل الذي قبله البريطانيون في القرون الاولى لم يكن الارتداد الروماني قد افسده. وكانت الاضطهادات التي أثارها الاباطرة الوثنيون والتي امتدت حتى الى هذه السواحل النائية هي الهدية الوحيدة التي حصلت عليها الكنائس من عاصمة الامبراطورية. وكثيرون من المسيحيين الذين هربوا من الاضطهاد الواقع عليهم في انجلترا وجدوا لأنفسهم ملاذا في اسكوتلانده، ومن هناك انتقل الحق الى ايرلانده، وفي كل هذه الاقطار قبل الناس الحق بفرح.
عندما غزا السكسون بريطانيا كانت الوثنية سائدة على البلاد. وقد استنكف الغزاة وترفعوا عن أن يتلقوا التعليم من ايدي عبيدهم، فأرغم المسيحيون على التراجع الى الجبال والقفار الموحشة، ومع ذلك فالنور الذي احتجب الى حين ظل مشتعلا. وبعد ذلك بقرن من الزمان كان ذلك النور يضيء في اسكوتلانده بلمعان عظيم امتد الى بلدان بعيدة. ومن ايرلانده أتى كولومبا التقي ومعاونوه الذين جمعوا حولهم المؤمنين المشتتين في جزيرة أيونا الموحشة وجعلوها مركز خدماتهم الكرازية. ووجد بين اولئك الكارزين رجل كان يحفظ السبت الكتابي، وهكذا قُدم هذا الحق الى الناس، فانشئت في أيونا مدرسة خرج منها المرسلون ليس الى اسكوتلانده وانجلترا وحدهما بل أيضا الى المانيا وسويسرا، وحتى الى ايطاليا نفسها.
فرق مدهش
لكنّ روما
رنت بنظرها الى
بريطانيا وعقدت العزم
على اخضاعها لسيادتها. ففي
القرن السادس أخذ مرسلوها
على عاتقهم أمر
هداية السكسون الوثنيين. وقد
قوبلوا بكل سرور
وترحيب من البرابرة المتكبرين فاستمالوا
آلافاً كثيرة منهم
الى العقيدة الرومانية.
واذ تقدم العمل اصطدم
الرؤساء البابويون والمهتدون
بالمسيحيين الاصليين، وبدا الفرق
مدهشا بين الفريقين: فقد
كان المسيحيون قوما
بسطاء متواضعين ومتمسكين بمبادئ
الكتاب المقدس في
اخلاقهم وتعاليمهم وعاداتهم،
أما البابويون فقد عرضوا
خرافات البابوية وعظمتها
وغطرستها. وقد أمر مبعوث
البابا هذه الكنائس
المسيحية أن تعترف
بسيادة البابا السامية. وبكل
وداعة اجابه البريطانيون
قائلين انهم يريدون
ان يحبوا جميع الناس،
وان البابا ليس
مخولا أمر السيادة
في الكنيسة، وكذلك
فهم لا يبدون له
الا الخضوع الذي
هو من حق
كل تابع للمسيح.
فبُذلت عدة محاولات للظفر
بولائهم لروما، لكنّ
هؤلاء المسيحيين الوضعاء
اذ اذهلتهم الكبرياء التي
اظهرها مبعوثو روما
اجابوا بكل ثبات
قائلين انهم لا يعرفون
سيدا آخر غير المسيح. وهنا
ظهرت روح البابوية
على حقيقتها. فلقد قال
ذلك الرئيس البابوي:
"اذا كنتم لا
تقبلون الاخوة الذين يجيئونكم
بالسلام فسيأتيكم الاعداء
الذين يحملون اليكم
الحرب والدمار. واذا لم
تتحدوا معنا في
ارشاد السكسون الى
طريق الحياة فستتلقون منهم
ضربات الموت". ولم
يكن هذا كلاما عديم الجدوى، فلقد
استُخدمت الحروب والمؤامرات
والخداع والغدر ضد شهود
ايمان الانجيل هؤلاء
الى ان خربت
كنائس بريطانيا أو أرغمت على الخضوع لسلطان
البابا.
ولكن بعيدا من سلطان روما كانت توجد على امتداد القرون جماعات من المسيحيين ظلوا تقريبا احرارا من الفساد البابوي. لقد كانوا محاطين بالوثنية وبمرور العصور تأثروا باخطائها، الا انهم ظلوا يعتبرون الكتاب المقدس كالقانون الوحيد للايمان، وتمسكوا بكثير من حقائقه. هؤلاء المسيحيون كانوا يؤمنون بثبات شريعة يهوه ودوامها، وكانوا يحفظون السبت الذي نصت عليه الوصية الرابعة. والكنائس التي تمسكت بهذا الايمان وهذا السلوك كانت في اواسط افريقيا وبين ارمن آسيا الصغرى.
ايمان الولدنسيين
الولدنسيون كانوا في طليعة من قاوموا اعتداءات السلطة البابوية. ففي البلاد نفسها التي ثبتت فيها البابوية كرسيها لاقت أباطيلها وأكاذيبها ومفاسدها اقسى مقاومة. وقد ظلت كنائس بيدمونت محتفظة باستقلالها عدة قرون، ولكن اخيرا جاء الوقت الذي فيه أصرت روما على اخضاع تلك الكنائس لسلطانها. وبعد حروب غير مجدية ضد طغيان روما اعترف رؤساء هذه الكنائس مكرهين بسيادة تلك القوة التي بدا كأن كل العالم يبدي لها ولاءه وهو صاغر. ومع ذلك فقد وُجد بعض من رفض الخضوع للبابا أو للاساقفة. اولئك أصروا على تقديم ولائهم ليهوه وحده والاحتفاظ بنقاوة إيمانهم وبساطته. وقد حدث انفصال. فالذين ظلوا متمسكين بايمانهم القديم انسحبوا بعيدا. بعض منهم هجروا وطنهم في جبال الالب ليرفعوا راية الحق في بلدان غريبة، بينما تراجع غيرهم الى الوديان الصغيرة المنعزلة والمعاقل الصخرية في الجبال حيث احتفظوا بحريتهم في عبادة يهوه.
من بين أهم الاسباب التي ادت الى انفصال الكنيسة الحقيقية عن روما، الكراهية التي ابدتها هذه ليوم السبت المنصوص عنه في الكتاب. وكما سبق للانبياء ان تنبأوا فقد طرحت السلطة البابوية الحق على الارض، فديست شريعة يهوه في الثرى بينما عظّم الناس التقاليد والعادات البشرية ومجدّوها. والكنائس التي كانت خاضعة لحكم البابا ارغمت من البدء على اكرام يوم الاحد كيوم مقدس. وفي وسط الضلالات والخرافات السائدة ارتبك كثيرون حتى من شعب يهوه الامناء الى حد انهم مع كونهم قد حفظوا السبت كفوا عن العمل في يوم الاحد ايضا. لكنّ هذا لم يكن ليرضي الرؤساء البابويين. فقد امروا الشعب لا ان يقدسوا يوم الاحد فقط بل ايضا ان يدنسوا يوم السبت، وبأقسى الالفاظ وأشدها توعدوا من يكرمونه. ولم يتمكن احد من حفظ شريعة يهوه في سلام الا بالهروب من تحت سلطان روما.
كان الولدنسيون في طليعة شعوب اوروبا في الحصول على ترجمة الكتاب المقدس. فقبل ايام الاصلاح بمئات السنين كانت في حوزتهم نسخ منه مكتوبة بخط اليد وفي لغتهم الوطنية. لقد كان بين ايديهم الحق الالهي النقي لا تشوبه شائبة، وهذا جعلهم هدفا للكراهية والاضطهاد. لقد اعلنوا ان كنيسة روما هي بابل المرتدة الوارد ذكرها في سفر الرؤيا، فتصدوا لمقاومتها ومحاربة مفاسدها مخاطرين في ذلك بحياتهم. وفي حين ان بعضا منهم عرضوا إيمانهم وعقيدتهم للهوان اذ تنازلوا شيئاً فشيئاً عن مبادئهم المميزة تحت ضغط الاضطهاد الطويل الأمد فان آخرين ثبتوا متمسكين بالحق. وعلى مدى عصور الظلم والارتداد وجد بعض الولدنسيين الذين انكروا على روما سيادتها، ورفضوا عبادة الصور على انها وثنية، وقد حفظوا السبت الحقيقي. وظلوا محتفظين بايمانهم تحت اقسى عواصف المقاومة. فمع انهم طُعنوا بحراب آل سافوى ولسعتهم نيران البابوية وأحرقتهم فقد ظلوا ثابتين لم يتراجعوا قيد أنملة، بل دافعوا عن كلمة يهوه وكرامته بلا خوف.
وخلف الحصون العالية في الجبال التي كانت ملاذا للمضطهَدين على مر العصور وجد الولدنسيون مخبأ لهم. في تلك الاماكن ظل نور الحق متألقا ومضيئا في وسط ظلام العصور الوسطى، ولمدى الف سنة حفظ شهود الحق الايمان القديم نقيا هناك.
يهوه امدهم بالقوة
لقد أعد يهوه لشعبه مقدِسا ذا جلال مهيب يتناسب وعظمة الحقائق المسلمة اليهم امانة بين ايديهم. وكانت الجبال في نظر اولئك المطرودين الامناء رمزا لبر السيد وعدله الذي لا يتزعزع ولا يُنقض. وقد وجهوا انظار اولادهم الى المرتفعات الشاهقة من فوقهم في جلال ثابت، وحدثوهم عن ذلك الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران، الذي كلمته راسخة رسوخ الآكام الدهرية. لقد ثبَّت يهوه الجبال ومنطَّقها بالقوة، ولا يمكن لغير ذراع القدرة اللامتناهية ان تزحزها من أماكنها. وبتلك القوة نفسها ثبَّت شريعته التي هي أساس حكمه في السماء وعلى الارض. يمكن لذراع الانسان ان تمتد الى بني جنسه وتقضي على حياتهم، ولكن لو أمكن تلك الذراع ان تقتلع الجبال من أساساتها وتلقي بها في أعماق البحر لاستطاعت أن تغير وصية واحدة من شريعة السيد او تمحو وعدا واحدا من مواعيده للعاملين بوصاياه والمتممين ارادته. فينبغي لعبيد يهوه ان يظلوا راسخين كالجبال الثابتة عند اظهار ولائهم لشريعته.
كانت الجبال المحيطة بأوديتهم المنخفضة شاهدا دائما على قدرة يهوه الخالقة وضمانا لا يخيب ابداً لرعاية يهوه الحافظة. ولقد تعلم اولئك الغرباء ان يحبوا تلك الرموز الصامتة المنبئة بحضور يهوه. ولم يصدر عنهم تذمر أو تبرم من الحياة الشاقة التي كانت من نصيبهم، ولم يكونوا يحسون بالوحشة وهم معتزلون وحدهم في تلك الجبال، بل شكروا يهوه الذي هيأ لهم ملجأ يلوذون به هروبا من غضب الناس وقسوتهم، ولقد تهللت قلوبهم لأجل الحرية التي استطاعوا في ظلالها ان يقدموا اليه عبادتهم. وفي غالب الاحيان عندما كان اعداؤهم يتعقبونهم كانوا يجدون في الجبال القوية الراسخة حصنا منيعا. وبين الصخور العالية كانوا يتغنون بحمد يهوه، فما استطاعت جيوش روما أن تُسكت اغاني شكرهم.
اتًّسمت تقوى اتباع المسيح اولئك بالنقاوة والبساطة والغيرة. كانوا يعتبرون مبادئ الحق اجلّ قدرا من البيوت والاراضي والاصدقاء والاقرباء وحتى الحياة نفسها. وبكل غيرة واهتمام حاولوا ان يطبعوا هذه المبادئ في قلوب الاحداث والشباب. فمنذ بكور الحداثة كان الصغار يتعلمون الكتب المقدسة ويقدسون مطالب شريعة يهوه. كانت نسخ الكتاب قليلة ونادرة الوجود، فلذلك كانوا يحفظون غيبا تلك الاقوال الثمينة. وكان كثيرون منهم قادرين على تلاوة فصول كبيرة من العهدين القديم والجديد عن ظهر قلب. وكانت افكارهم عن يهوه مصحوبة دائما بمنظر الطبيعة الجليل وبركات حياتهم اليومية البسيطة. وقد تعلم الصغار ان ينظروا بشكر الى يهوه الذي من عنده تنحدر كل النعم والتعزيات.
هذا، وان الآباء مع ما كانوا يضمرونه لاولادهم من رقة ومحبة لم يفرطوا في حبهم لهم الى حد السماح لهم بأن يتعودوا الانغماس في الملذات. ذلك أن الحياة التي أمامهم كانت حياة التجارب والمشقات، وقد تُختم بالاستشهاد، لذا درّبوهم منذ طفولتهم على الصبر والقسوة وضبط النفس، والاعتماد على أنفسهم في العمل والتفكير، فتعلم الابناء منذ الصغر ان يتحملوا المسؤوليات ويتحفظوا في كلامهم، كما تعلموا حكمة الصمت: ذلك لأن كلمة واحدة طائشة تقع على مسامع اعدائهم كانت كفيلة بأن توقع في الخطر ليس قائلها وحده بل مئات من اخوته، لان اعداء الحق كانوا يطاردون كل من يجرؤ على الجهر بأن له الحرية في اختيار العقيدة الدينية التي تروقه، كما تطارد الذئاب قطيعا من الخراف.
لقد ضحى الولدنسيون بالنجاح العالمي وكل أسباب الرفاهية لاجل الحق. وبكل مواظبة وصبر جعلوا يكدون لجمع قوتهم. فكل بقعة تصلح للزرع بين الجبال اصلحت بكل عناية، والوديان وجوانب التلال الاقل خصوبة اصلحت لتجود بثمار وفيرة. وكان الاقتصاد وانكار الذات الصارم جزءا من التهذيب الذي أخذه الابناء عن آبائهم. وقد تعلم الابناء ان يهوه يقصد ان تكون حياتهم تدريبا دائما، وانه يمكنهم الحصول على ما يحتاجون اليه بالكد والعمل الشخصي، بالحكمة والتبصر والحرص والايمان. وكان نمط العيش هذا يتطلب الكد والمشقة، ولكنه كان مصدر صحة لهم قوّى عزائمهم وعضلاتهم، وهذا هو ما يحتاج اليه الانسان في حالته، حالة السقوط، وهو المدرسة التي اعدها يهوه لتدريبه وتنمية قواه. ومع تعوُّد الشباب حياة الكد والعمل المضني لم تُغفل تماما الثقافة العقلية. فلقد تعلموا ان كل قواهم هي ملك ليهوه وانه ينبغي لهم اصلاحها كلها وتحسينها وتنميتها لأجل خدمته.
كارزون غيورون ومضحّون
كانت كنائس الولدنسيين أو الفودوا شبيهة بالكنيسة الرسولية الاولى في طهارتها وبساطتها. فاذ رفضوا سيادة البابا والاساقفة تمسكوا بالكتاب المقدس على أنه السلطة العليا الوحيدة المعصومة من الخطأ. ورعاتهم الذين كانوا يختلفون اختلافا بينا عن كهنة روما المتعجرفين اتبعوا مثال سيدهم الذي "لم يأت ليُخدم بل ليَخدم". كانوا يرعون قطيع يهوه ويربضونهم في المراعي الخضر ويوردونهم ينابيع المياه الحية اي كلمته المقدسة. فهناك، بعيدا من تماثيل الفخامة البشرية والكبرياء، اجتمع الشعب ليس في كنائس فخمة او كاتدرائيات مهيبة بل تحت ظلال الجبال في وديان الألب. وفي اوقات الخطر كانوا يلجأون الى حصن بين الصخور ليصغوا الى كلام الحق من أفواه خدام المسيح. ولم يكتف الرعاة بالمناداة بالانجيل بل كانوا يزورون المرضى ويعلِّمون الاطفال ويُنذرون المخطئين ويدأبون في فض المنازعات وانهاء الخصومات وانماء روح الوفاق والمحبة الاخوية. وفي اوقات السلم كان الشعب يعولونهم بتقدماتهم الطوعية. ولكن كما كانت لبولس حرفة هي صناعة الخيام، كذلك تعلم كل منهم حرفة او مهنة يعول بها نفسه عندما تدعو الضرورة.
ولقد تلقى الشباب تعليمهم على ايدي رعاتهم. فعندما كانوا يدرسون العلوم العامة كان الكتاب المقدس مادة دراستهم الرئيسة. فحفظوا ما ورد في انجيلي متى ويوحنا عن ظهر قلب فضلا عن كثير من الرسائل. ثم انهم كانوا يقضون بعض وقتهم في نسخ الكتاب المقدس. وكانت بعض تلك المخطوطات تحتوي على الكتاب كله، لكنّ البعض الآخر كان يحتوي على مختارات منه فقط. وكان بعض القادرين منهم يضيفون الى تلك المختارات شروحا بسيطة لبعض الآيات. وهكذا ظهرت للملأ كنوز الحق التي كان من قد تعظموا على يهوه قد اخفوها عن الناس امدا طويلا.
فبصبر عظيم وجهد لا يكل نُسخت الكتب المقدسة احيانا في مغاور الارض السحيقة المظلمة على نور المشاعل، كتبت آية بعد آية واصحاحا بعد اصحاح. وهكذا استمر العمل، وهكذا كانت ارادة يهوه المعلنة تلمع كالذهب الخالص، وقد زاد من لمعانها ووضوحها وقوتها التجارب التي احتملها اولئك الابرار في سبيلها، ولم يتحقق من ذلك غير الذين قاموا بذلك العمل. وكان ملائكة السماء يعسكرون حول العاملين الامناء.
لقد ألح الشيطان على الكهنة والاساقفة البابويين ان يدفنوا كلمة الحق تحت اكوام الضلالات والهرطقات والخرافات، ولكنها بطريقة عجيبة حُفظت في طهارتها ونقاوتها مدى عصور الظلام كلها. انها لم تكن تحمل طابع انسان بل طابع يهوه. لقد بذل الناس جهودا لا تكل في اخفاء معاني اقوال الكتاب المقدس الواضحة البسيطة وجعلها تناقض شهادتها. ولكن كما كان الفُلك يسير على وجه المياه ذات الامواج الصاخبة كذلك كلمة يهوه تنتصر على العواصف التي تتهددها بالهلاك، وتقهرها. وكما توجد في المنجم عروق الذهب والفضة مختبئة تحت سطح الارض، وهكذا على من يريد ان يكتشف كنوزها الثمينة ان يحفر ويحفر الى عمق كبير، كذلك أقوال يهوه المقدسة حَوَتْ كنوز الحق التي لا تُكشف الا لمن يطلبها بروح الغيرة والتواضع والصلاة. لقد قصد يهوه ان يكون الكتاب المقدس هو الكتاب الذي ينبغي أن يتعلمه كل بني الانسان في مراحل الطفولة والشباب والرجولة، وأن يدرسوها في كل وقت. ولقد أعطى الناس كلامَه كاعلان عن نفسه، فكل حق جديد يُفهم ويُدرك هو كشف جديد لصفات مبدعه ومعطيه. ان درس الكلمة الالهية هو الوسيلة التي رسمها يهوه لتقريب الناس الى خالقهم، وايجاد صلة وثيقة بينه وبينهم، واعطائهم معرفة اوضح وأكمل لارادته. فكلمة يهوه هي وسيلة التخاطب بين يهوه والانسان.
الكنز الاعظم
واذ كان الولدنسيون يعتبرون ان مخافة السيد هي رأس الحكمة لم يكونوا يجهلون أهمية الاتصال بالعالم ومعرفة الناس والحياة العملية لتوسيع المدارك وتنشيط الاحاسيس. فأرسل بعض الشباب من مدارسهم في الجبال الى معاهد العلم في مدن فرنسا وايطاليا حيث كان المجال اوسع للتفكير والدرس والملاحظة مما كان في وطنهم في جبال الألب. وقد تعرض اولئك الشباب الذين ارسلوا الى تلك المعاهد للتجارب، اذ شاهدوا الرذيلة واصطدموا بأعوان الشيطان الماكرين الذين ألحوا عليهم في قبول اخبث الهرطقات وأخطر المخاتلات. الا ان تهذيبهم الذي كانوا قد تلقوه منذ طفولتهم كان حصنا قويا اعَّدهم لمواجهة كل تلك الامور.
وفي المدارس التي ذهبوا اليها لم يستأمنوا احدا على اسرارهم. وقد أعدت ملابسهم بحيث تخفي اعظم كنوزهم: مخطوطات الكتب المقدسة الثمينة. فهذه المخطوطات، التي كانت ثمرة تعب شهور وسنين، حملوها معهم. وكلما سنحت لهم الفرص من دون ان يثيروا شبهة احد كانوا يضعون بكل حرص وحذر اجزاء منها في طريق اولئك الذين كان يبدو لهم ان قلوبهم مفتوحة لقبول الحق. ان هؤلاء الشبان الولدنسيين تربوا منذ نعومة اظفارهم جاعلين هذه الغاية نصب عيونهم. وقد فهموا عملهم وقاموا به بكل امانة، فاهتدى البعض الى الايمان الحقيقي في معاهد العلم هذه، وفي أحيان كثيرة وجد أن مبادئه قد تسربت الى كل المدرسة، ومع ذلك فان الرؤساء البابويين بكل استجواباتهم الملحفة واسئلتهم المحرجة لم يستطيعوا تتبع هذا التعليم، الذي قالوا عنه انه هرطقة، الى منبعه.
ان روح المسيح هي روح تبشيرية، وأول دافع يعتمل في نفس الانسان المتجدد هو أن يأتى بالآخرين الى المخلص. هذه كانت روح هؤلاء الولدنسيين المسيحيين، فلقد احسوا بأن يهوه يطلب منهم شيئا اكثر من مجرد حفظ الحق في نقاوته في كنائسهم، وان عليهم مسؤولية مقدسة هي ان يجعلوا نورهم يشرق على من هم في الظلمة، وبقوة كلمة يهوه العظيمة حاولوا ان يحطموا قيود العبودية التي فرضتها روما على الناس. وقد تربى خَدَمَة الولدنسيين وتدربوا على ان يكونوا مبشرين، اذا كان يُطلب من كل من يدخل الخدمة ان يكون له أول كل شيء اختبار المبشر. وكان على كل منهم أن يخدم مدة ثلاث سنين في مركز تبشيري قبل ان يوكل اليه امر رعاية كنيسة في وطنه. فهذه الخدمة التي كانت تتطلب انكار الذات والتضحية حالما يدخلها الخادم كانت تمهيدا مناسبا لحياة الراعي في تلك الاوقات التي محصت نفوس الناس. والشبان الذين رسموا لهذه الوظيفة المقدسة لم يروا امامهم آمالا مشرقة للثراء والمجد العالمي بل حياة الكد والمشقة والخطر، وربما الاستشهاد. وكان اولئك المبشرون يخرجون اثنين اثنين كما ارسل يهوشوه تلاميذه. وفي العادة، كان يصحب الشاب رجلٌ مسنٌّ محنَّك، وكان الشاب يسير بموجب ارشادات زميله الذي كان مسؤولا عن تدريبه، كما كان يبالي بتعليماته. ولم يكن هذان الزميلان يسيران متلازمين دائما بل كانا في غالب الاحيان يجتمعان معا للصلاة والتشاور، وهكذا كان الواحد منهما يشدد زميله في الايمان.
بيد انهما لو باحا بغرض رسالتهما لكانت هزيمتهما امرا مؤكدا، ولذلك كانا يحرصان على اخفاء شخصيتهما. فقد كان كل خادم يحذق حرفة أو مهنة، وكان اولئك المبشرون يتابعون عملهم تحت ستار الحرفة الزمنية، وكانوا في العادة يختارون ان يكونوا باعة متجولين. "كانوا يحملون اصناف الحرير والجواهر وغيرها من السلع التي لم يكن من السهل شراؤها في تلك الايام الا في الاسواق البعيدة. وكان الناس يرحبون بهم كتجار في الاماكن التي لو عرف الناس فيها انهم مبشرون لكانوا يطردونهم". وكانوا طوال الوقت يرفعون قلوبهم في الصلاة الى يهوه في طلب الحكمة حتى يوفروا للناس كنزا أثمن من الذهب واللآلئ، وكانوا يحملون معهم في السر نسخاً من الكتاب المقدس بين طيات ثيابهم، سواء أكان الكتاب كاملا أم مجتَزَأ، وكلما عرضت لهم فرصة كانوا يسترعون انتباه زبائنهم الى هذه المخطوطات. وفي غالب الاحيان كانوا يوقظون في نفوس الناس شوقا وحنينا الى قراءة كلمة يهوه. فكانوا بكل سرور يودعون بعض تلك النسخ بين ايدي من يرغبون في قبولها.
إلقاء البذار الثمين
بدأ عمل هؤلاء المبشرين في السهول والوديان الرابضة عند سفوح جبالهم، ولكنه امتد الى أماكن بعيدة. واذ كانوا يسيرون حفاة في ملابسهم الخشنة التي علاها غبار السفر، كما كانت الحال مع سيدهم، دخلوا المدن العظيمة واخترقوا البلدان البعيدة. وفي كل مكان كانوا يلقون البذار الثمين. وقد اقيمت كنائس في طريقهم، كما شهد دم الشهداء للحق. وسيكشف يوم السيد العظيم عن الحصاد الغني الوفير من النفوس التي جمعت الى المخزن من طريق اتعاب هؤلاء الرجال الامناء وخدماتهم. واذ كانت كلمة يهوه محتجبة وصامتة راحت تشق لنفسها طريقا في العالم المسيحي وتلاقي قبولا وفرحا في بيوت الناس وقلوبهم.
لم يكن الولدنسيون يعتبرون كلام يهوه مجرد سجل لمعاملات يهوه مع الناس في لماضي واعلانا لواجبات الحاضر وتبعاته وكفى، بل كانت تلك الاقوال الالهية كشفا واعلانا لمخاطر المستقبل وامجاده. كانوا يعتقدون ان نهاية كل شيء لم تكن بعيدة منهم جدا. ولما كانوا يدرسون الكتاب المقدس بالصلاة والدموع تأثروا تأثرا عميقا بأقواله الثمينة واقتنعوا بأن واجبهم يقتضيهم ان يعرِّفوا الآخرين بحقائقه المخلصة. لقد وجدوا تدبير الخلاص معلنا في الكتاب بكل وضوح، كما وجدوا العزاء والسلام والرجاء في الايمان بيهوشوه. ولان النور اشرق على أفهامهم وابهج قلوبهم تاقوا الى ان يسلطوه على من كانوا جالسين في كورة الظلام، ظلام الضلالات البابوية.
لقد رأوا أن جماهير من الناس باتِّباعهم تعليمات البابا والكهنة كانوا يحاولون عبثا الحصول على الغفران بتعذيب اجسامهم لأجل خطايا نفوسهم. فاذ كانوا قد تعلموا أن يركنوا الى اعمالهم الصالحة لتخصلهم كانوا دائما ينظرون الى ذواتهم، وكانوا يفكرون في حالتهم الخاطئة ويرون انفسهم مستهدفين لغضب يهوه وعذاب الروح والجسد، ومع ذلك لم يجدوا راحة او عزاء. هكذا كان كل انسان حي الضمير مكبَّلا بتعاليم روما. ان الوفا من الناس هجروا اقرباءهم واصدقاءهم ليقضوا حياتهم في الاديرة. كانوا يفرضون على انفسهم اصواما طويلة متكررة ويجلدون انفسهم جلدا قاسيا ويتلون صلوات نصف الليل وقداساته وينطرحون على الاحجار الباردة الرطبة ساعات طويلة متعبة في مساكنهم الموحشة ويسافرون سفرا طويلا ليحجوا الى الاماكن المقدسة، وبالاذلال والتكفيرات المختلفة والعذابات المخيفة ـ بهذه الوسائل وبكثير غيرها حاول الوف الناس أن يحصلوا على السلام لضمائرهم. كان يضغط قلوبَهم الشعورُ بالخطيئة ويلازمهم الخوف من غضب يهوه وانتقامه، فيتجلدون على احتمال آلامهم النفسية حتى تنهار اخيرا طبيعتهم المجهدة فيوارون الثرى من دون ان يُبهج نفوسَهم شعاعٌ من نور ورجاء.
يوجهون الخطاة الى المسيح
تاق الولدنسيون الى ان يكسروا خبز الحياة ليناولوه لهذه الانفس الجائعة، وان يكشفوا لهم رسالة السلام في مواعيد يهوه، ويوجهوا انظارهم وقلوبهم الى المسيح الذي هو رجاؤهم الوحيد في الخلاص. ان العقيدة القائلة بأن الاعمال الصالحة يمكنها ان تكفِّر عن التعدي على شريعة يهوه اعتبروها هم عقيدة كاذبة. فالاتكال على الاستحقاق البشري يتعارض مع فكرة محبة المسيح غير المحدودة. لقد مات يهوشوه كذبيحة عن الانسان لأن جنسنا الساقط عاجز تماما عن عمل ما يمكن ان ينال به حظوة أو قبولا أمام يهوه. واستحقاقات المخلص المصلوب والمقام هي أساس الايمان المسيحي. فاعتماد النفس على المسيح هو أمر حقيقي، وارتباطها به ينبغي ان يكون وثيقا كارتباط العضو بالجسم والغصن بالكرمة.
جعلت تعاليم البابوات والكهنة الناسً ينظرون الى صفات يهوه وحتى صفات المسيح كما لو كانت صفات عابسة وكئيبة وكريهة. فلقد صوروا المخلص كمن خلا قلبه من العطف على الانسان في حالته الساقطة بحيث أنه كان ينبغي للناس أن يتوسلوا طالبين وساطة الكهنة والقديسين. أما الذين استنارت عقولهم بكلمة يهوه فقد تاقوا الى ارشاد هذه النفوس الى يهوشوه كالمخلص المحب الرحيم الذي يقف باسطا ذراعيه داعيا الكل أن يأتوا اليه بأثقال خطاياهم وهمومهم ومتاعبهم. وكانوا يشتاقون الى ازالة كل العوائق والمعطَّلات التي كدَّسها الشيطان حتى لا يرى الناس المواعيد ويأتوا الى يهوه مباشرة معترفين بخطاياهم ليحصلوا على الغفران والسلام.
مهاجمة مملكة الشيطان
وبكل شوق كان المبشر الولدنسي يكشف للعقول الطالبة المعرفة حقائق الانجيل الثمينة. وبكل حذر كان يقدم بعض اجزاء من كلمة يهوه المقدسة المكتوبة بكل حرص وعناية. وكان مما يبهج قلبه أن يعطي الرجاء للنفس الطالبة الخلاص المضروبة بالخطيئة والتي تنظر إلى يهوه على انه اله النقمة وحسب الموشك ان يجري عدله. وكثيراً ما كان يكشف للاخوة عن المواعيد الثمية التي ترشد الخاطئ الى رجائه الوحيد، وفيما هو يتكلم كانت شفتاه ترتعشان من فرط التأثر وعيناه تدمعان وهو جاث على ركبتيه. وعلى هذا النحو اشرق نور الحق مبددا ظلمات العقول فانقشعت سحب الكآبة حتى اشرقت في القلب شمس البر، وفي اشراقتها البُّرء. وفي غالب الاحيان كان يُتلى فصل من الكتاب مرارا وتكرارا اذ كان السامعون يبدون رغبتهم في تكراره كأنما ليستوثقوا من صدق ما قد سمعوه. وكان الناس يرغبون بالاخص في تكرار مثل هذه الاقوال: "دم...[يهوشوه المسيح] ابنه يطهرنا من كل خطيئة" ( 1 يوحنا 1: 7 ). "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي ان يُرفع ابن الانسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 3: 14 و 15).
كثيرون من الناس ما كانوا لينخدعوا بادعاءات روما. فلقد رأوا بُطل وساطة الناس أو الملائكة لأجل الخاطئ. واذ أشرق النور الحقيقي على عقولهم كانوا يهتفون فرحا قائلين : "المسيح هو كاهننا ودمه ذبيحتنا ومذبحه كرسي اعترافنا". وقد ألقوا انفسهم بالتمام على استحقاقات يهوشوه مرددين هذه الاقوال: "بدون ايمان لا يمكن ارضاؤه" ( عبرانيين 11: 6 )، "ليس أسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي ان نخلص" ( أعمال 4: 12 ).
كان يقين محبة المخلص شيئا اكبر من ان تستوعبه بعض تلك النفوس المسكينة التي كانت في مهب العاصفة. ولقد كانت الراحة التي حققها ذلك اليقين عظيمة جدا، والنور الذي شعّه باهرا جدا حتى لقد بدا كأن اولئك الناس قد اختطفوا الى السماء. لقد وضعوا أيديهم بكل ثقة في يد المسيح وثبّتوا أقدامهم على صخر الدهور. انتفى عنهم كل خوف من الموت، بل صاروا الآن يتحرّقون شوقا الى أن يُطرحوا في أعماق السجون او يحرقوا بالنار لو أمكنهم بذلك أن يكرموا اسم فاديهم.
وهكذا أُخرجت كلمة يهوه وكانت تُقرأ في الاماكن الخفية. وأحيانا كان السامع شخصا واحدا. وأحيانا اخرى كانوا جماعة صغيرة من الناس المشتاقين الى النور والحق. وفي غالب الاحيان كانوا يقضون الليل كله ساهرين يصغون الى كلمة يهوه. وكانت الدهشة والإعجاب يستوليان على السامعين بحيث ان رسول الرحمة ذاك كان كثيرا ما يضطر الى التوقف عن القراءة حتى تستوعب افهام السامعين معاني بشارة الخلاص. وفي كثير من الاحيان كان بعض اولئك السامعين يسأل قائلا: "هل يقبل...[يهوه] ذبيحتي حقا، وهل سيبتسم في وجهي؟ هل سيغفر لي؟" فكان يأتيه الجواب من الكتاب قائلا: "تعالوا اليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وأنا أريحكم" (متى 11: 28 ).
طريق الحق والحياة
لقد تمسكوا بالوعد بايمان، وسُمعت الاستجابة المفرحة تقول: "لن اقوم بالحج الطويل بعد اليوم، ولن اسافر سفرا مضنيا الى المعابد المقدسة، اذ يمكنني الإتيان الى...[يهوشوه]كما انا بخطيئتي ونجاستي، وهو لن يرذل صلاة التوبة والاسترحام التي أقدمها اليه. "مغفورة لك خطاياك" ، حتى خطاياي انا يمكن ان تغفر!".
حينئذ كان يغمر القلبَ فيضٌ من الفرح المقدس ويتعظم اسم يهوشوه في الشكر والتسبيح. وكان اولئك السعداء المغبوطون يعودون الى بيوتهم لينشروا النور، وعلى قدر استطاعتهم كانوا يسردون اختبارهم الجديد على الآخرين، وانهم قد وجدوا الطريق الحي الحقيقي. وكان يصحب كلام يهوه فيض من القوة المقدسة العجيبة فيصل الى قلوب الناس المشتاقين الى الحق. لقد كان هو صوت يهوه فكان يحمل معه قوة اقناع وتبكيت وصلت الى قلوب السامعين.
بعد ذلك كان رسول الحق يسير في طريقه، لكنّ مظهر الوداعة الذي بدا عليه وغيرته واخلاصه وحماسته الشديدة، كل تلك الصفات كانت موضوع تعليقات الناس المتعددة، وفي حالات كثيرة لم يسأله سامعوه من اين أتى ولا الى أين هو ذاهب. ففي البدء غمرتهم الدهشة، وبعد ذلك غمرهم الشكر والفرح الى حد كبير حتى لم يفكروا في أن يسألوه. وعندما الحوا عليه في الذهاب معهم الى بيوتهم كان يجيبهم قائلا أن عليه أن يزور الخراف الضالة عن القطيع. فكانوا يستاءلون قائلين: ألا يمكن أن يكون هذا الانسان ملاكا آتيا من السماء؟
في حالات كثيرة لم يعد الناس يرون رسول الحق مرة اخرى. لقد سار في طريقه الى بلدان اخرى، او لعله كان يقضي ايامه في سجن مظلم، او ربما استشهد ودفنت عظامه في الارض التي كان يسير عليها شاهدا للناس. لكنّ الاقوال التي نطق بها لم تذهب هباء، كلا ولا تلاشت، بل كانت تعمل عملها في قلوب السامعين، وسيكشف يوم الدين عن تلك النتائج المباركة كاملة.
كان المبشرون الولدنسيون دائبين في غزو مملكة الشيطان، فثارت قوات الظلام ونشطت بمزيد من الحذر. وكان سلطان الشر يراقب كل محاولة تبذل لتقدم رسالة الحق ونجاحها فأثار مخاوف أعوانه. وقد رأى الرؤساء البابويون أن تلك الرسالة شؤم عليهم ونذير بالخطر على دعوتهم، وأن ذلك الخطر يجيئهم من اولئك المبشرين المتجولين الفقراء. فلو سُمح لنور الحق ان يضيء من دون عائق أو مانع فلا بد ان يكتسح أمامه سحب الضلال الكثيفة التي اكتنفت الناس، مرشدا عقولهم الى يهوه وحده، ولا بد أن يؤول الامر الى هدم سيادة روما.
ان مجرد وجود هذا الشعب المتمسك بايمان الكنيسة الاولى كان شهادة دائمة على ارتداد روما، ولذلك فقد أثاروا اقسى العداء والاضطهاد المرير. وان رفضهم التنازل عن الكتب المقدسة والتفريط فيها كان ايضا اساءة لم تستطع روما السكوت عليها. ولذلك عوّلت على ان تمحو اسمهم وذكرهم عن وجه الارض. وحينئذ بدأت أرهب الحملات الصليبية ضد شعب يهوه في بيوتهم الجبلية. وتعقبهم المخبرون والمحققون، وتكررت مأساة هابيل البار وهو يسقط مجندلا بيد قايين القاتل، مرارا عديدة.
وقد خربت وأتلفت أراضيهم الخصبة مرارا وتكرارا كما اكتسحت مساكنهم وكنائسهم، حتى أنه في الاماكن التي ازدهرت فيها قبلا الحقول والبيوت التي كان يسكنها ذلك الشعب البريء المُجدّ الكدود لم يبق غير الخراب اليباب في البرية القاحلة. فكما يزيد الوحش المفترس ضراوة عندما يلغ في الدماء، كذلك زاد اضطرام غضب البابويين بعد الآلام والخسائر التي اوقعوها باولئك الضحايا المساكين. وقد طورد كثيرون من اولئك الشهود للحق النقي عبر الجبال واقتنصهم مطاردوهم في الوديان حيث اختبأوا أو حُبسوا في الغابات العظيمة وقمم الجبال.
لم يكن من الممكن تقديم تهمة تمس اخلاق تلك الفئة المحرومة. فحتى اعداؤهم اعلنوا انهم شعب مسالم هادئ تقي. لكنّ الجريمة العظمى كانت انهم لم يريدوا ان يعبدوا يهوه حسبما يريد البابا. فلأجل هذه الجريمة الواحدة انهالت عليهم كل الوان الاذلال والاهانات والعذابات التي قد تعنّ على بال الناس او الشياطين.
حملة على شهود السيد
وعندما عزمت روما في زمن ما أن تستأصل هذه الطائفة المكروهة أصدر البابا براءة تقضي بادانتهم كهراطقة وأسلمهم للذبح. لم تكن التهمة الموجهة اليهم هي التبطُّل أو الخيانة أو الاخلال بالأمن والنظام، بل أشيع عنهم بأنهم يتظاهرون بالتقوى والقداسة، وهذا المظهر يخدع "خراف الحظيرة الحقيقية". لذلك أمر البابا قائلا: "تلك الطائفة الخبيثة الرجسة المطبوعة على الشر، اذا رفض افرادها ان يجحدوا تعاليمهم فينبغي سحقهم كالحيات السامة". فهل كان هذا العاهل المتعجرف يعرف أنه سيواجه هذا الكلام مرة اخرى، وهل كان يعلم أنه قد سُجل ضده في أسفار السماء، وانه سيجابه بهذا الكلام في يوم الدين؟ لقد قال يهوشوه: "بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الاصاغر فبي فعلتم" (متى 25: 40).
اوجبت هذه البراءة على كل عضو في الكنيسة ان يشترك في الحملة الصليبية ضد الهراطقة. والذي حفز الناس على هذا العمل القاسي هو انهم "برئت ساحتهم من كل العقوبات الكنسية، العامة منها والخاصة. وكل من اشترك في تلك الحملة اعتق من كل النذور التي أوجبها على نفسه وصار له الحق الشرعي في ملكية أي شيء يكون قد استولى عليه بغير وجه حق، واعطي وعداً بغفران كل خطاياه متى قتل اياًّ من اولئك الهراطقة. وقد الغى ذلك المنشور كل عقد لصالح الولدنسيين، وأمر خدمهم بهجرهم وترك خدمتهم، ونهى جميع الناس عن تقديم كل مساعدة لهم، واعطى كل الناس سلطانا بالاستيلاء على املاك الولدنسيين". هذه الوثيقة تكشف عن الروح الكامنة خلف كل تلك المشاهد. والصوت الذي يُسمع فيها ليس هو صوت المسيح بل هو زئير التنين.
ان الرؤساء البابويين رفضوا الامتثال لمقياس شريعة يهوه العظيم، بل لقد اقاموا ووضعوا قانونا يناسبهم ويتفق ورغباتهم وعزموا على ارغام الناس على الامتثال له لأن هذه هي ارادة روما. وقد حدثت أرهب المآسي. وكان الكهنة والبابوات الفاسدون المجدِّفون يقومون بالعمل الذي عينه الشيطان لهم، وما كان للرحمة أن تجد لنفسها سبيلا الى قلوبهم. فالروح نفسها التي صلبت المسيح وقتلت الرسل، والروح نفسها التي حرّكت نيرون المتعطش الى سفك الدماء الزكية ليقضي على الامناء في عهده، كانت دائبة في عملها لتبيد من الارض اولئك الذين كانوا احبّاء يهوه.
ان الاضطهادات التي حلت بهذا الشعب الخائف يهوه احتملوها قرونا عديدة بصبر وثبات، وتمجد بذلك فاديهم. وعلى رغم الحملات الصليبية التي جُردت عليهم والمذابح الوحشية التي حلت بهم فانهم لم يكفوا عن ارسال مبشريهم ليبذروا بذار الحق الثمين. لقد طوردوا حتى الموت ومع ذلك أروت دماؤهم ذلك البذار المزروع فلم يكف عن الاتيان بثمر. وهكذا شهد الولدنسيون ليهوه قبل ميلاد لوثر بعدة قرون. فاذ تشتتوا في بلدان كثيرة زرعوا بذار الاصلاح الذي بدأ في أيام ويكلف ونما وزاد وتأصل في أيام لوثر، وسيظل هذا العمل متقدما الى الامام الى انقضاء الدهر على ايدي من يرغبون أيضاً في احتمال كل شيء "من أجل كلمة...[يهوه] ومن أجل شهادة...[يهوشوه المسيح]" (رؤيا 19:1 ).