من المظاهر الشائعة للعبادة الصيام لمدّة من الزمان يحدّدها رجال الدين، فيحذو الناس حذوهم في الامتناع عن الطعام و/أو الشراب، أو عن بعض الأطعمة دون غيرها، بغية الحصول على رضا الخالق وعفوه عن خطاياهم. لكن هناك الكثير من الأصوام التي لا علاقة لها بيهوه الإله الحقيقي. كما أنّ كثيرًا من الأصوام تجري وفق عادات وتقاليد غريبة عن المفهوم الكتابي الحق بخصوص الصوم.
1) هل يفرض علينا الكتاب المقدس صيام شهور أو أيّام محددة؟
الصوم، بحسب الكتاب المقدس، ليس فريضة يأمرنا خالقنا أن نؤدّيها. ولكن في نفس الوقت، يعرض الكتاب المقدس الصوم كشيء جيد، نافع، ومتوقّع. ففي سفر أعمال الرسل نقرأ أنّ المؤمنين كانوا يصومون قُبيل الإقدام على قرارات مهمة (أعمال 13: 3).
2) ولكن، أليس الصوم فريضة يؤدّيها الإنسان لأجل خالقه؟
في كل ما يطلبه يهوه من الإنسان، يضع في الحسبان صالح البشر وخيرهم الدنيوي والأبدي. فكل الوصايا المذكورة في الكتاب المقدّس غايتها خير الإنسان وصالحه وسعادته. وهو في تعاملاته مع بنى آدم يرشدهم للطرق التي من خلالها يحاربون الشرّ ويلجأون إلى أبيهم السماوي ويعرضون عليه سؤل قلوبهم، فيسمع لهم صوتهم ويجيبهم إلى طلبهم لكي ينعموا بالسعادة والهناء، ومن هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار الصوم فريضة نؤدّيها لكي يشملنا الخالق بعفوه.
3) ما علاقة الصوم بأن يسمع إلهنا الصلاة ويجيبها؟
العلاقة هي في الاتّضاع...الاتضاع الذي نتّسم به خلال صيامنا، لأنّ الصيام هو إذلال للنفس وليس مجرّد الامتناع عن الأكل والشرب. فالصيام الحقيقى هو إخضاع النفس بميولها الشريرة إلى إرادة الخالق فيملك على قلوبنا بالمحبّة الأبديّة التي أحبّها بنا، ولا نقوم بذلك بدافع عقاب النفس. وهكذا، ليست كل الأصوام تصطبغ بالصبغة التعبّديّة ليهوه. فالصوم الذي ليهوه هو أن يقول الإنسان بقلبه ونفسه أنّه تائب ونادم من دون تعالٍ ولا تكبّر بل يطلب من الإله الحقيقي الاسترحام أو يكون في صومه تعبير عن التواضع. الصوم، في حدّ ذاته لا يجعلنا أبرارًا ومخلّصين، لكنّه الوسيلة التي تعبّر بها عن توبة القلب الحقيقيّة.
4) هل من أمثلة تظهر فيها علاقة الصوم بطلب الرحمة من الخالق؟
هناك قصص كثيرة في الكتاب المقدس تخبرنا كيف كان للصوم دور في أن يرفع يهوه جزاء الدينونة عن العصاة والمتعدّين على وصاياه، وفي أن يغفر للتائبين في أحيان أخرى متى ما اقترن صومهم بالتوبة القلبية الصادقة. فمن هذه القصص قصة صوم أهل نينوى، وهذا ما جنّبهم حكم الدينونة الإلهية على أمّتهم (يونان 3: 5).
ومن الأمثلة الأخرى صوم آخاب الملك: كان هناك شخص اسمه نابوت من منطقة اسمها يزراعيل في السامرة وكان عنده كرمة للعنب، وأراد ملك السامرة آخاب أن يأخذ من نابوت هذه الكرمة لكي يوسّع قصره. لكنّ نابوت رفض لأنّ الكرمة كانت ميراثًا له من عائلته. حزن آخاب لهذا الرفض، ولمّا رأته امرأته إيزابل حزينًا وعرفت سبب حزنه، قالت له أنّها هي ستجعله يأخذ هذه الكرمة. فأتت بشهود زور على أنّ نابوت كفر وجدّف على يهوه وعلى الملك. وعندما شهد الناس عليه بالكذب حكموا عليه بالموت ورجموه ! لكنّ يهوه أرسل إيليّا النبي إلى آخاب ليقول له أنّه في نفس المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت ستلحس دمه أيضًا. فلمّا سمع آخاب هذا الكلام لبس خيشًا وصام وبدأ يتواضع أمام يهوه. نقرأ هذا في (1 ملوك 21: 27- 29): "وَلَمَّا سَمِعَ أَخْآبُ هذَا الْكَلاَمَ، شَقَّ ثِيَابَهُ وَجَعَلَ مِسْحًا عَلَى جَسَدِهِ، وَصَامَ وَاضْطَجَعَ بِالْمِسْحِ وَمَشَى بِسُكُوتٍ. فَكَانَ كَلاَمُ...[يهوه] إِلَى إِيلِيَّا التِّشْبِيِّ قَائِلاً: هَلْ رَأَيْتَ كَيْفَ اتَّضَعَ أَخْآبُ أَمَامِي؟ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَعَ أَمَامِي لاَ أَجْلِبُ الشَّرَّ فِي أَيَّامِهِ، بَلْ فِي أَيَّامِ ابْنِهِ أَجْلِبُ الشَّرَّ عَلَى بَيْتِهِ". من هذه الآيات نرى كيف أنّ صوم آخاب غيّر الأمر تمامًا ورفع حكم الدينونة عنه, ووعده يهوه قائلا: "فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَعَ أَمَامِي لاَ أَجْلِبُ الشَّرَّ فِي أَيَّامِهِ، بَلْ فِي أَيَّامِ ابْنِهِ أَجْلِبُ الشَّرَّ عَلَى بَيْتِهِ".
5) هل يمكن أن يكون هناك أصوام لا ترتبط بالعبادة؟
نعم، مثل حالات الإضراب عن الطعام، بهدف تحسين شروط المساومة للحصول على غرض ما، أو نتيجة التوتّر والغيرة أو الحيرة...فمثلا، نقرأ في (أعمال 23: 20، 21) أنّ جماعة من اليهود قد تعاهدوا أن لا يأكلوا ولا يشربوا حتّى يقتلوا بولس الرسول. فهذا الصوم لم يكن ذا صبغة تعبّديّة بل نتيجة رغبة جامحة في الانتقام والقتل.
6) إذا كان هذا هو الصوم غير المرتبط بالعبادة، فما هو الصوم الذي يرتبط بعبادة يهوه؟
هناك قصص كثيرة من الكتاب المقدس تخبرنا كيف كان للصوم دور في أن يرفع يهوه غضبه عن شعبه وأن يغفر لهم في أحيان أخرى. فمن هذه القصص أنّ النبيّ داود أخطأ مرّة وارتكب فعل زنى مع امرأة أسمها بتشبع، وكانت نتيجة ذلك أنّها أنجبت ولدًا، ولكنّ يهوه بعث لداود برسول اسمه ناثان قائلا له أنّ عمله كان خطأ وأنّ الولد الذي أنجبه سيموت. لذلك بدأ داود النبي يصوم، وبات ينام على الأرض ولا يتكلّم مع أحد. لكن كانت النتيجة أنّ الولد مات. وبعدما مات قام الملك داود وأكل، ونقرأ هذه القصة من الكتاب المقدس في سفر صموئيل النبي والآيات من 13- 18:
" فَقَالَ دَاوُدُ لِنَاثَانَ: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى ...[يهوه]». فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: «...[يهوه] أَيْضًا قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ. غَيْرَ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ بِهذَا الأَمْرِ أَعْدَاءَ...[يهوه] يَشْمَتُونَ، فَالابْنُ الْمَوْلُودُ لَكَ يَمُوت». وَذَهَبَ نَاثَانُ إِلَى بَيْتِهِ. وَضَرَبَ...[يهوه] الْوَلَدَ الَّذِي وَلَدَتْهُ امْرَأَةُ أُورِيَّا لِدَاوُدَ فَثَقِلَ. فَسَأَلَ دَاوُدُ...[يهوه] مِنْ أَجْلِ الصَّبِيِّ، وَصَامَ دَاوُدُ صَوْمًا، وَدَخَلَ وَبَاتَ مُضْطَجِعًا عَلَى الأَرْضِ. فَقَامَ شُيُوخُ بَيْتِهِ عَلَيْهِ لِيُقِيمُوهُ عَنِ الأَرْضِ فَلَمْ يَشَأْ، وَلَمْ يَأْكُلْ مَعَهُمْ خُبْزًا. وَكَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ أَنَّ الْوَلَدَ مَاتَ"
نلاحظ أنّ داود النبي اعترف بخطيّته فقال له ناثان النبي: "«...[يهوه] أَيْضًا قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ"، ولكن داود النبي أراد أن يتواضع قدام إلهه لكي يستجيب له يهوه ولا يموت الولد. لكن الولد مات؟! وذلك لأنّ الأمر ليس وفق مشيئة يهوه الصالحة، ولأنّ الولد سيكون مصدر عار لداود، لذلك لم يُجب يهوه سؤل داود لأنّ صلاته أصلاً لم تكن حسب المقصد الإلهي.
7) لكن ما معنى كلام ناثان النبي أن يهوه نقل عنه خطيته وأنّه لن يموت؟
إنّ ما قصده ناثان هنا بروح النبوة أنّ عقوبة خطيته رُفعت عنه بواسطة المسيح المصلوب الذي أخذ يهوه عدالته منه عندما صُلبَ فداء لجميع أولاد آدم.
8) هل هناك أوقات معيّنة للصوم: شهر معين أو أيام معينة من الأسبوع؟
المثال الوحيد في الكتاب المقدس الذي يعتقد البعض بأنّه طلب للصوم في وقت محدّد هو الصوم المرتبط بيوم الكفارة: "أَمَّا الْعَاشِرُ مِنْ هذَا الشَّهْرِ السَّابعِ، فَهُوَ يَوْمُ الْكَفَّارَةِ. مَحْفَلاً مُقَدَّسًا يَكُونُ لَكُمْ. تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ" (لاويين 27:23). [للمزيد من الدراسة حول يوم الكفارة ومعنى هذا العيد في أيّامنا هذه، برجاء النقر هنا، كما يرتبط عيد الكفارة بنهاية نبوة الـ 2300 يوم/ سنة في عام 1844م.]. بالرغم من أنّ مصطلح الصوم لم يُذكر بعينه، إلا أنّ البعض يعتقد بأنّ التذلّل يُفهم على أنّه صوم، وهذا يناسب الأحداث المهيبة المرتبطة بيوم الكفارة. فهذا "الصوم" يرتبط بإذلال النفس وإضعاف سيطرة الخطيئة عليها. فالصوم من دون التوبة الخالصة عن الخطيئة لا معنى له ولا فائدة روحيّة تُرتجى منه.
9) متى كان المؤمنون يصومون، في أيّام الكتاب المقدّس؟
نقرأ في الكتاب المقدس أنّ الناس صاموا في ظروف مختلفة:
فدانيال النبي صام لمدة 21 يومًا عندما احتاج إلى حكمة من الخالق وطلب روح الفهم والمشورة، لكي ينال تفسيرًا للنبوءة: (راجع دانيال 10: 2- 3، 7).
كان الصوم يتم أيضا لتجنّب الدينونة التي ستحل بالأمّة، كما هي الحال مع نينوى، حيث صام أهل المدينة كلّهم وهو صوم التوبة فامتنعت الدينونة عنهم (يونان 3: 5). وكانت الكثير من الكوارث التي ستحل بالأمة يتمّ تحويلها أو إلغاؤها بفعل صلاة التوبة والصوم الجماعي (راجع 1 صموئيل 7: 6، 2 أخبار 20: 3).
والملكة أستير صامت عندما كان خطر الموت محدقًا بها وبشعبها في بلاد فارس: (أستير 4: 3).
وكان الشعب يصوم أيضًا في الأوقات العصيبة الأخرى مثل أيام الحرب أو التهديد بالحرب ونقرأ عن ذلك في سفر القضاة: "فصَعِدَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّ الشَّعْبِ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ إِيلَ وَبَكَوْا وَجَلَسُوا هُنَاكَ أَمَامَ...[يهوه]، وَصَامُوا ذلِكَ الْيَوْمَ إِلَى الْمَسَاءِ، وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ أَمَامَ...[يهوه]" (قضاة 20: 26).
كذلك نقرأ في سفر المزامير أنّ النبي داود كان يصوم عندما يمرض أعداؤه (مزمور 35: 11- 13).
وكانوا يصومون كتعبير عن الندم على الخطية وطلبا للانتعاش الروحي (يوئيل 1: 14، 15، ونحميا 9: 1). وهذا الصوم هامّ جدًّا، سؤاء أكان على مستوى الفرد أم على مستوى جماعة المؤمنين. وعن طريق الصوم كان يهوه ينجّي شعبه وكل المؤمنين به من كل المحن والضيقات ويغفر لهم خطاياهم عندما يتواضعون ويعترفون نادمين على كل خطية ارتكبوها.
ومن الأمثلة الواضحة عن الصوم في العهد الجديد صوم المسيح يهوشوه عند بداية خدمته العلنيّة، وقد أكسبه هذا الصوم قوة هائلة احتاج إليها للصمود أمام تجارب الشيطان، كما ضرب في ذلك أروع مثال في إخضاع قوة الشهية للإرادة المتعطّشة إلى عمل مشيئة الآب السماوي (متى 4: 2).
10) ما هي المدّة التي يجب أن يصومها المؤمن؟
لا توجد مدّة محدّدة، بل يصوم المؤمن بحسب إلهام الروح القدس. ففي الأصوام المذكورة في الكتاب المقدّس، كانت المدة تختلف بين حالة وأخرى. فكل مؤمن كان يصوم بحسب إيحاء الروح القدس، إذ لم تكن هناك فروض تحدّد مدّة الصوم، بل تُرك الأمر مفتوحًا للظروف الخاصّة بكل حالة. فأحيانًا كان الصوم يومًا واحدًا من شروق الشمس إلى مغربها [للمزيد من الدراسة حول متى يبدأ اليوم بحسب الكتاب المقدس، برجاء النقرهنا]، وأحيانًا كانت ليلة واحدة، وأحيانًا كان الصوم يستمر ثلاثة أيّام كما فعلت أستير، كذلك صام شعب بلد جلعاد سبعة أيّام عندما مات شاول الملك، وصام داود سبعة أيّام لمّا مرض ابنه من بتشبع. وصام دانيال ثلاثة أسابيع أيّام وليال، وصام موسى قبل أن يستلم الشريعة من يهوه على الجبل أربعين يومًا.
11) كيف ينبغي أن يصوم الإنسان؟ هل ينبغي الامتناع نهائيّا عن الأكل والشرب؟ وهل هنالك أنواع خاصّة من الطعام يمكن أكلها أثناء فترة الصيام؟
بالنسبة لرجال الدّين، الصوم هو الامتناع عن الطعام لمدّة من الزمن، لكنّ الكتاب المقدس لم يحدّد هذا الأمر بشكل جازم، إنّما نكرّر أن الصوم لا يتوقّف على الامتناع عن الأكل والشرب ولكن للصوم معنى أعمق من ذلك بكثير. فكما ذكرنا أنّ الإنسان في صيامه يذلّ نفسه أمام يهوه كتعبير عن توبته عن خطأ عمله أو لطلب الرحمة وغيرها لكن المعنى المهم هو أنّنا نصوم عن العالم أي نكسر نفوسنا وأجسادنا معًا في نفس الوقت أمام إلهنا لكي نقترب بنفوسنا من خالقنا وإلا سيكون الصيام غير مقبول وبلا فائدة روحية. هناك بعض الناس الذين لا يقدرون أن يمتنعوا نهائيا عن الطعام والشراب إذ قد يؤدي هذا الامتناع إلى شعور بدوران في الرأس وغثيان...فيمكنهم تناول وجبة خفيفة جدا (بعض الثمار مثلا) في أثناء الصوم، ثم يكملون تأمّلهم الروحي ويُعتبرون صائمين. فالصوم الحقيقي يتعلق أكثر بحالة القلب من حالة المعدة.
12) هل يعنى ذلك أنّ الصوم الذي يقتصر فقط على الامتناع عن الأكل والشرب ليس صوما حقيقيا؟
نعم، وفي الكتاب المقدس أمثلة كثيرة على ذلك: فمثلا نقرأ في سفر أشعياء الأصحاح 58 والأيات 3-7: "يَقُولُونَ: لِمَاذَا صُمْنَا وَلَمْ تَنْظُرْ، ذَلَّلْنَا أَنْفُسَنَا وَلَمْ تُلاَحِظْ؟ هَا إِنَّكُمْ فِي يَوْمِ صَوْمِكُمْ تُوجِدُونَ مَسَرَّةً، وَبِكُلِّ أَشْغَالِكُمْ تُسَخِّرُون. هَا إِنَّكُمْ لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ تَصُومُونَ، وَلِتَضْرِبُوا بِلَكْمَةِ الشَّرِّ. لَسْتُمْ تَصُومُونَ كَمَا الْيَوْمَ لِتَسْمِيعِ صَوْتِكُمْ فِي الْعَلاَءِ. أَمِثْلُ هذَا يَكُونُ صَوْمٌ أَخْتَارُهُ؟ يَوْمًا يُذَلِّلُ الإِنْسَانُ فِيهِ نَفْسَهُ، يُحْنِي كَالأَسَلَةِ رَأْسَهُ، وَيْفْرُشُ تَحْتَهُ مِسْحًا وَرَمَادًا. هَلْ تُسَمِّي هذَا صَوْمًا وَيَوْمًا مَقْبُولاً...[ليهوه]؟ أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ".
نفهم من هذه الآيات أنّ هناك أناسًا صاموا ظانّين أنّهم فعلًا أذلّوا أنفسهم وتابوا توبة صادقة أمام إلههم، لكنّ الحقيقة هي أنّهم لم يتوبوا بل كانوا مشغولين بأعمالهم. بالإضافة الى ذلك، فقد كان نفوسهم مدنّسة بالخصام والعناد وكانوا يتبادلون الكلام السيّئ ويهينون بعضهم، ورغم كل ذلك، كانوا يعتقدون أنّهم في صوم حقيقي وأنّ الخالق يسمع صلاتهم في هذا الصيام. لكن الحقيقة هي أنّهم صائمون بجسدهم، أي يحرمون أنفسهم من الأكل ويسمحون لأنفسهم أن تقترف الذنوب أو أن تفتكر أذهانهم بالشر ويقول الواحد منهم: "إنّي صائم"، ولكنّ فكرهم ما زال مشغولا بالأفكار البطّالة التي ينمّيها إبليس في داخلهم.
كما أنّ السيد المسيح قد حذّرنا من الصوم على طريقة الفريسيّين، إذ قال: "وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ
يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ.
اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ" (متى 6: 16). وهذا أيضا من الشروط الواجب مراعاتها عند الصيام حتى يكون صياماً حقيقيّا يرضى عنه الخالق.
13) لكن ما هو الحل لأولئك الناس؟
الحل مذكور في نفس الآيات في الجزء الذي يقول: "أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ". فالصيام الذي يخلو من توبة صادقة عن الخطية أمام الخالق لا فائدة منه [الخطية هي التعدي على الناموس (راجع 1 يوحنا 3: 4)، للمزيد من الدراسة حول أهمية الطاعة للخلاص، برجاء النقر هنا]. لنتخيّل أنّ هناك أيّاما معيّنة يصوم فيها كلّ الناس- المستعدّ للتوبة وغير المستعدّ لها- فبالطبع سيكون هناك أناس صائمين وغير تائبين.
14) ولكن، هل يمكن أن يكون هناك أناس صائمون وغير تائبين؟
بالطبع، فهناك كثيرون يصومون عن الأكل فقط، وقد يصومون عن خجل واضطرار، أو لأنّ الصوم يكفّر عن ذنوبهم ويغفر لهم خطاياهم. ومن هؤلاء من يملك الكثير من المال لكنّه يُهمل قريبه أو أيّ شخص من معارفه جائعًا أو محتاجًا أو عريانًا. وكما قرأنا في الآيات السابقة أنّ الصيام الحقيقي هو أن نُرجع الناس عن طرقها ونسعى للخير فلا يكون هناك من شرّ بيننا وبين أحد ولا نترك غريبًا أو تائهًا من دون أن نهتمّ به أو نستضيفه في بيوتنا.
15) إذًا فالصيام هو أنّنا نحسّ بغيرنا؟
الإحساس بغيرنا هو نتيجة للصوم الحقيقي، الذي هو أن يمتنع الإنسان عن كل شروره مع كل الناس من حوله وأن يكون أمينا مع رسالة الحق فتكون علاقته مع الخالق صحيحة أثناء صيامه وبعد صيامه [مثال على ذلك إكرام الخالق بحفظ سبته الحقيقي وإطاعة أمره بالخروج من بابل (الكنائس الساقطة)]. وبعد ذلك، إذ يكون الإنسان نادمًا على ذنوبه ومعترفًا بخطيّته فتكون النتيجة أنّه يحسّ بغيره.
16) هل من شروط لكي يكون الصوم مقبولا؟
ذكر السيد المسيح أهمّ شرط لقبول الصوم ونقرأه في إنجيل متى الأصحاح 6 والآيات من 16-18:"وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً". نتعلّم من هذه الآيات أهمّ شرط من شروط الصوم وهو أن يكون الصوم صومًا ليهوه فقط وليس صومًا للتباهي بالتقوى والتديّن. فالصيام الحقيقي يكون بيني وبين الآب السماوي، لذلك حذّرنا السيد المسيح له المجد، وهو العارف بطبيعتنا وما سيحصل، حذّرنا من أن نظهر للناس صائمين. وهكذا، يجب أن تنوخّى السريّة في الصوم، فيهوه الذي يرى في السرّ هو الذي سيجازينا وليس الناس الذين نبدو لهم صائمين.
17) وماذا عن الذين لا يقدرون أن يصوموا، كالمرضى...؟ فهل من الضرورة بعد فوات مدّة المرض مثلا أو غيرها أن يرجع الصائم ويعوّض عن الأيّام الفائتة من صيامه؟
إنّ الصوم وسيلة وليس فريضة، لذا لسنا نلتزم بأيّام أو شهور لكن بأوقات معينة لا يعرفها إلا الصائم ويهوه. ففي الصيام هناك انكسار للنفس أمام السيّد من دون أن يعرف أحد. ويمكن أن يكون هذا يومًا واحدًا من الصبح لغاية الليل ويمكن أن يكون لمدة أطول حسب القدرة.
18) هل من الضروري أن نصلّي أيضًا أثناء الصوم؟
عند ذكر لوقا الإنجيلي لمثل قاضي الظلم الذي أورده عن لسان السيد المسيح، كتب لوقا التالي: "وَقَالَ لَهُمْ [أي المسيح] أَيْضًا مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ" (لوقا 18: 1). فالصلاة والتضرّع كلّ حين ينبغي أن يكون أسلوب حياة عند المؤمن، وخصوصًا أثناء الصوم، فالهدف من الصوم هو الاقتراب من يهوه، الإله الحقيقي، لذا تُرافق الصلاة الصومَ حتمًا، فنتكلًم مع إلهنا المحبّ بصلاتنا ونسأله ويسمع لنا. فإن لم نصلِّ لا فائدة لصومنا بل يكون صومنا مجرّد حرمان للجسم من الأكل فقط وليس له أيّة فائدة روحية، ويكون تذلّلا للنفس ومجرّد إثبات أنّني قادر أن أمنع نفسي عن الأكل مدّة من الوقت وأفرح وأفتخر بنفسي أنّي صمت هذه المدّة أو أحسّ أنّي أتممْتُ ما هو مفروض عليّ. كما نقرأ في إنجيل لوقا أنّ حنّة النبيّة كانت دائمًا تتعبّد في الهيكل بأصوام وطلبات ليلًا ونهارًا (لوقا 2: 37).
19) هل هناك نصائح أخرى بخصوص الصوم؟
غالباً ما يكون التركيز في الصوم على عدم تناول الطعام. ولكن الغرض الأساسي هو تقوية الحياة الروحية وزيادة القدرة على سماع صوت الروح الداخلي في ضمائرنا وقلوبنا. قد تكون فترات الإمتناع الطويلة عن الطعام ضارّة للجسد. فليس المقصود بالصيام معاقبة الجسد، بل التركيز على يهوه. ويجب ألا يكون الصيام "نظام غذائي للتخسيس". ولا ينبغي أن نصوم لنفقد بعض الوزن، ولكن لنكسب علاقة أوثق وشركة أعمق مع أبينا السماوي ومع ابنه يهوشوه. نعم، يمكن لأي شخص الصوم. وربما لا يتمكّن البعض من الامتناع عن تناول الطعام (مرضي السكر مثلاً)، ولكن كلّ شخص يمكنه التنازل عن شيء ما يساعده على التركيز على الخالق المحبّ. أمّا الأشخاص القدرين صحيّا على الامتناع، فالأصل في الصوم الامتناع الكلّي عن الطعام...وليس صومًا الذي يحرّم تناول اللحوم مثلاً أثناء فترة الصوم ثم يعود لإجازة أكلها بعد فترة الصوم.
20) هل من أهداف أخرى للصوم؟
الصيام
كما قلنا هو وسيلة قويّة جدًّا تجعل المؤمن قادرًا على معرفة مشيئة يهوه في كلّ
المراحل المهمّة من حياته. فعلى سبيل المثال، كان النبي موسى، قبل أن يعطيه يهوه
التوراة أو الوصايا العشر التي هي عهده الأبدي مع بني آدم، كان صائمًا لمدّة
أربعين يومًا وليلة? كذلك نحن كمؤمنين بعمل يهوشوه المسيح وقبل كل خطوة مهمّة مثل
عمل جديد أو زواج أو معرفة مشيئة يهوه في حياتنا من ناحية أيّ أمر، بمجرّد أنّنا
نصوم بقلوبنا ونفرّغ أنفسنا من أفكار العالم وشهواته نتقرّب من خالقنا ونحسّ
بوجوده في حياتنا ونكون مستمعين جيّدين لصوت الإله الحقيقي، من خلال روحه القدّوس،
الذي يتكلم في نفوسنا وضمائرنا ويعلن في داخلنا عن مشيئة إلهنا الصالحة في
حياتنا. وبتحويل نظرنا عن الأشياء العالميّة، يمكننا التركيز أكثر على المسيح.
لذلك
إن كنت بحاجة لأن تسمع صوت السيّد داخل ضميرك ونفسك صلِّ معنا والتزم بصوم من كلّ
قلبك:
"ياسيّدي
الإله المحبّ، أنا نادم يا يهوه أنّي دائمًا غير مطيع لك، وأنّي كاسر
لوصاياك، بما
فيها وصيّة سبتك المقدّس، ودائمًا في صيامي انشغل بمشاغل الدنيا
واهتماماتها. لذا
يا إلهي اسألك أن تعطيني القوة لكي أصوم لك أنت وحدك من كل قلبي... اجعلني
في صيامي أركّز
نظري عليك أنت وحدك وأكون حسّاسًا لسماع صوت روحك القدوس في ضميري...
كلّمني يا أبتي السماوي فعبدك سامع... اقبل توبتي... قوّيني حتّى أكون
دائمًا في خطّتك التي رسمتها لي واجعلني مطيعًا
لك ولمشيئتك... أسألك اليوم باسم الفادي يهوشوه المسيح...آمين".
خلاصة:
الصوم الحقيقي أكبر بكثير من أن يُعرّف بمجرد الامتناع عن الطعام لأوقات مفروضة من الكنائس. ينبغي أن يكون الصوم أسلوب حياة للمؤمن، فنحن مدعوون للصوم عن الخطيئة طيلة حياتنا وهذا هو المعنى الأعمق للصوم. [لمعرفة الغذاء الذي يطلبه يهوه من شعبه في الأيام الأخيرة، برجاء النقر هنا].
في الكتاب المقدس نقرأ أنّ الناس كانوا يصومون في أوقات مختلفة كما تقتضي الظروف والحاجات، فكان يتم الصوم من دون أمر واضح من يهوه. وكانوا يقرونون صلواتهم بالأصوام التي كان القصد منها تنشيط القدرة الروحية في حياتهم والاتضاع وإسكات صوت الحاجة الجسدية بقصد التركيز على الروحيات، أو التعبير عن أولويّة الحاجات الروحيّة على حاجات الجسد المتنوّعة، وفي هذا إظهار لحرارة طلبتهم وصلاتهم.
الصيام هو طريقة من خلالها يمكنك التعبير للإله الحقيقي ولنفسك أنّك جادّ في علاقتك معه. والصيام يساعد في إعطائك وجهة نظر جديدة واتّكال مجدّد على يهوه. وليس الغرض من الصيام هو إقناع الخالق بفعل ما نريده. فالصيام يغيّرنا نحن، ولكن لا يغيّر يهوه. والصيام ليس طريقة لإظهار أنّنا أكثر روحانية عن الآخرين. فلا بد أن يصاحب الصيام روح التواضع والفرح والصلاة الحارّة.